recent
أخبار ساخنة

فُتنَة ” رواية لـ”أميرة بهي الدين” الجزء الرابع والأخير

إيجي تريند
الصفحة الرئيسية

أميرة بهي الدين


فُتنَة ” رواية لـ”أميرة بهي الدين” الجزء الرابع والأخير



الجزء الرابع والأخير


رؤوف

حدّق رؤوف في سقف غرفته طويلا، صامتًا لا يتحرك، وكأنه ينتظر إلهامًا يهبط عليه من السماء، يحل مشكلته الثقيلة ويبعده عن مقعده، ويُخرِجه من صومعته، وينهي عزلته الطويلة، أحَس ندمًا لأنه فكّر أن يتصل بنبيل، ولأنه تَحَمس لإنقاذه من القاع الذي اختاره لنفسه، وفي نفس الوقت يسأل نفسه، ولِم لا يساعده ليحفظ موهبته، ويتحمل مشاقها، ويختار طريقه الصحيح، وينقذ نفسه؟ ويعود ويسأل نفسه، ولِم يساعده إذا كان لن يسمع له، ولن يأخذ بنصيحته؟ يَسخر من نبيل الذي يرهقه ويحيره، المؤلف الكبير اختار بإرادته أن يسكن القاع، وأن يكتب قيحًا يدرّ عليه مالاً وشهرة، ولعناتِ مخلصين، ما شأني بكل هذا؟ فليذهب للجحيم!  

عاد رؤوف إلى أوراقه ومقالته المؤجلة، كاد يكتب في منتصف الورقة الفارغة أمامه، القابض على دينِه كالقابض على الجمر، وكأنه عنوان المقال الجديد الذي سيهاجم فيه نبيل مرة جديدة لأنه يكتب ما يكتبه، فتراءت أمامه عبارة يؤمِن بها منذ زمنٍ طويل، ترى القشةَ في عيني، ولا ترى الشجرةَ في عينك، انتبَه لِما يفكر فيه، واجتاحه خجل لم يفلح في أن ينكره، لا ترى إلا نبيل وتخلّيه عن مبادئه وموهبته، وماذا عنك يا رؤوف؟ وعن الشجرة التي تسكن مقلتيك بعدما تركت الجمر من يديك مؤثرًا السلامة، موجوعًا فارًا من حرق كفيك؟! لا فائدة، أليست هذه هي حجتك التي رَكنت عليها وقت أن قذفت الجمرَ والمباديء من يديك وضميرك، وعزلت نفسك عن الحياة، وتقاعست عن المشاركه في أحداثها، وانتظرت أن يغيّرها الآخرون، ويدعوك للاحتفال معهم بانتصارك الذي لم تشارك فيه إلا ببضعه مقالات لم تعرّضك لعسفٍ موجع، ولا لثمن باهظ، ولا ما قررت أنك لن تقوَى عليه، ولن تتحمله، وآثرت السلامة والصومعة، والتبريرات التي لا نهاية لها؛ لتبقَى مكانك دون أن تفعل شيئًا؟!  

ويتقافز العرَق من مسام جسد رؤوف ومن رأسه، لماذا تهاجم نبيل وتلومه يا رؤوف؟ تفعل لأنه مثلك بالضبط، وتلميذك المخلص، والسائر على دربك بعدما ترك الجمر من يديه كما فعلت، وقرر ألا يدفع الثمن الموجع، واختار طريق السلامة والثراء والشهرة، وقبض مثلك على الهواء بيديه، كما غنّى لكما عبد الحليم حافظ! 

نعم، نبيل مثل رؤوف بالضبط، ترك الجمر ووهْم الموهبة، وانصاع لنداءات الذوق المنحط، والقرّاء الأمّيين، والطبعات الكثيرة، والجوائز ورضاء الناشر، والمكاسب الكبيرة، وحلمَ بكتبه تطبع أكثر من مرة، فلم تقرأ ولم تطبع إلا بعدما نفض الجمر من يديه، وقبض على ثلجٍ بارد، وأرضَى الناشر وذوق قرائه، فذاع صيته، وانتشر اسمه، وكسب مالاً كثيرًا، وكتب رواياتٍ رديئة، ترك الحكمَ القاسي عليها للنقاد، لا يكترث بآرائهم ولا بمعاييرهم الأكاديمية! 

انتبَه رؤوف إلى أن نبيل يئس بسرعة، وقال لا فائدة، وباع قضيته مثله، وقت أن يئس وقال لا فائدة، وباع قضيته! 

قهقه رؤوف ساخرًا من نفسه، ومن آرائه النقدية، ومن عجرفته التي لم ترَ الشجرةَ في عينه، قهقه حزينًا خجِلا، جميعنا ترك الجمر وقبض على ثلجٍ باردٍ خدرَ أعصابه وإحساسه ووجوده، وتمنى لو يبكي، لكن دموعه في تلك اللحظه ملّت منه وفرت من حدقتيه، كفاك دموعًا، لم تعد مجدية، وصوت لومِه يؤنّبه تهاجم الأديب الشاب لأنه تخلى عن موهبته، فماذا عنك أيها الشيخ الهرم العجوز، وأنت تخلّيت عن مبادئك وقضيتك ووطنك؟! وسالت دموعه خجلا! 

 
نبيل

ارتبك نبيل وقت أن خُيّل إليه، والماء ينهمر على رأسه وحيدًا في حمّامه وبيته، أن نافذة غرفته قد فُتِحت، وازداد ارتباكه وقت أن اخترق صخب الشارع وضوضاؤه أذنَيه وأصمّهما بضجيجه، ارتبك لا يصدق ما يحسه وما يسمعه، وفجأة انفجر ضحكه صاخبًا لأنه كاد يُجَن، بل لعله جُن فعلاً، وهمس لنفسه يذكّرها بحاله، أن البيت خاوٍ إلا منه، والنافذة مغلقة، وكل شيء يتصوره وهمٌ لا يحدث في الحقيقة.. "اعقل يا نبيل"! 

وسرعان ما خرج من الحمّام منتعشًا، مستعدًا لجولة جديدة من محاولاته المستمرة للإمساك بالفكرة التي ستخلق روايته الجديدة. جلس على مكتبه وأمامه الأوراق البيضاء منتشيًا واثقًا أنه سيبدأ اليوم في كتابة روايته الجديدة، تذكّر الفتاة التي اغتصبت قُبلتَه الأولى، ذات الشَّعر المكتكت، وفكّر أن يكتب عنها، عن جموحها ودلالها، عن قبحها وغنجها، عن دفء القُبلة الأولى .. سرَى في روحه يستدعي حضورها، وعاش معها بضعه أسطر وكأنه يكتب عنها منذ خرجت من بيت أبيها الفقير في البلدة النائية البعيدة، حتى نامت فوق البطانية المهترئة فوق بلاط المطبخ، ارتبك وكأنها تلاحقه بشهوتها، خجلَ منها ومن نفسه خجل الطفل البريء الذي اغتُصِب من مراهِقة تفور الهرمونات في بدنها، خجلَ وارتبك أكثر وأكثر، وسرعان ما عدل عن الفكرة، ومزق الورقة الخالية أمامه، كأنه يمزق وجه الفتاة وحكايتها وملامحها اللعوب، ويطردها من خياله ..

عاد يحدّق في الأوراق وكأنه ينتظر منها وحيًا وإلهامًا يكتبه فينتهي من إلحاح الناشر ومكالماته الغاضبة، ولومِه الدائم، لأنه يحرمه من المكاسب الكبيرة، ومن الرواية التي وعد القراءَ بسرعة نشرها، يحدّق في الأوراق علّها تذكّره بحكايةٍ قديمة نسيها، يمكِنه ببراعة أن يعيد صياغتها في شكل روايته الجديدة، لكن كل الحكايات القديمة تلاشت من ذهنه، وتركته أبيض مثل الأوراق الخاوية، شاحبًا كوجه الموتَى! 

"حبيبة القلب".. هكذا كتب في منتصف الصفحة عنوانًا حانيًا لروايته الجديدة، سيكتب عن شابٍ فقير أحَب فتاة غنية لم تحِبه، هز رأسه لا يعجبه ما يقوله، فكرة قديمة ومستهلَكة، سيكتب عن شابٍ فقير أحَب فتاة غنية، وأحَبته، وتحدّت الدنيا من أجله، فكرةٌ قديمة ومستهلَكة أيضًا! انتفض مِن على مكتبه غاضبًا، ما لك أيها الأديب المشهور؟ ما لك لا تجد أي فكرة جديدة تكتب عنها؟ ما لك لا تجد في رأسك إلا الأفكار القديمة الممِلة؟ ما لك لا تعثر على  حكاية لم يكتبها أحد قبلك، وكأن الأفكار انتهت من الحياة، والحكايات نفدت؟! غاضبٌ، عصبي، متوتر.. يتحرك في الغرفة المظلمة بعصبية، يعود لمكتبه والأوراق البيضاء والعنوان المكتوب، حبيبة القلب، ولا يجد حرفًا واحدًا يكتبه بعد ذلك! 

ساعاتٌ طويلة مرت عليه، وهو يحدّق في العنوان، يبحث عن جملة يبدأ بها الحكاية، لكن كل الجُمَل تستعصي عليه وعلى قلمه، وصوتُ الريح في الصحراء الخاوية يدوي في أذنيه لا يثمر فنًا ولا إبداعًا. 

ساعاتٌ طويلة مرت عليه بلا خطوةٍ واحدة للأمام، والصداع المتوحش ينهش في رأسه، حتى قرر أن ينام هربًا من كل معاناته، نظر بيأسٍ للعنوان المكتوب "حبيبة القلب"، ومزق الورقة، وألقي جسده على الفراش محاولا النوم، وكأنه سمِع صوت فُتنَة التي بقيت ساعاتٍ طويلة تراقِبه من فوق المكتب، تهمس في عقله،  "ما قلنا يا استاذ مش حتكتب إلا عني!". هز رأسه غضبًا وتحديًا، وكأنه يحلم.. وصرخ، "لا مش حاكتب عنك"، وغرق بسرعة في النوم يصارع الملثمّين ومحرقة الكتب، وكوابيسَه اليومية، يتأوّه ويصرخ، ويتشاجر ويبكي، والليل طويل طويل، فانتهزت فتنة فرصة نومِه وقررت أن تريح بدنها هي الأخرى، وعادت لأوراقها المطوية في الدرج وسَكنتها.. وغرقت في نومٍ ثقيل ..



فُتنَة

فتحت فتنة عينيها بصعوبةٍ وسط الأوراق المطوية على روحها، وسط ظلمة الدرج المغلق، الظلام والوحشة يحاصرانها ويكتمان على أنفاسها المختنقة في صدرها وفي الدرج، اشتاقت لبيتها وشرفته الصغيرة، لشجيرة النعناع الفوّاحة في ركن الشرفة، وفرع اللبلاب المتسلق على حافة النافذة، اشتاقت لجاراتها وصخبهن، وصوتِ غنائهن ومشاجراتهن، وصدى ضحكاتهن، اشتاقت لرائحة المطابخ، والطعام البيتي، وطشة الملوخية، وبرام الأرز المعمّر، ولب البطيخ، وتحويجة البن، اشتاقت لمتابعة حال أهل حيِّها وشارعها من النافذة، وهي جالسة فوق الكنبة تشرب قهوتها، القهوجي، العربجي، صاحب المكتبة، بائع الفول، بائعه الجبن، بنات الحي ذاهبات للمدرسة، سائق القطار الذي ينزل من بيته فجرًا، النسوة عائدات من السوق، ليلة حِنة في هذا البيت، طهور فوق السطوح، زفة عروس في الشارع، ذِكر الله في شادر كبير بمناسب عودة الفكهاني من الحج، اشتاقت فُتنة للحياة التي كانت تعيشها، الحياة التي حُرِمت منها وسط الأوراق المطوية وظلمة الدرج، والهواء الثقيل في الحجرة الساكنة، وخنقة دخان الحريق الذي ينبعث من حُلم المؤلف ليخنقها كل ليلة، اشتاقت فتنة لحياتها وعملها، لفساتينها الأنيقة، والروج الساطع، والمنضده الكبيرة التي تجلس عليها كل ليلةٍ تنتقي ضيفَها الذي ستقضي معه ليلة سعادته، اشتاقت لزبائنها وعملائها، للرجل العجوز الذي يبحث عن ونَسٍ وحياة، ويحلم بها زوجته التي تدلّك ساقيه المتعبتين، للعريس المرتبِك الفزِع الذي صدّق أن خطيبته القديمة ربطته فأفسدت حياته، وهددت استمراره مع عروسه الجميلة، للموظف الطيب الذي لم يجد بنت الحلال التي ترضى بقبحه، فذهب عندها وذاق السعادة والطيبة، وتمنى لو تخفض له أسعارها قليلا؛ حتى يقوَى على أن يزورها أكثر من مرة في الشهر، اشتاقت لصوت عبد الحليم يغني "في يوم، في شهر، في سَنة"، وموعود معايا بالعذاب، ولصوت فايزه أحمد تصرخ "حيران من ايه يا حبيبي"، ولصوت نجاة ينتحب "ودعنا الحبايب ونسينا الحبايب"، اشتاقت لأحلامها يوم تجد رجلا طيبًا ابن حلال يسامحها ويتزوجها، وتخدمه وتنكسر له، ويحبها وتسعده، تحلم بليلة فرحها، وفستان زفافها، وتسمع صوت زغاريد أمّها التي ستدعوها للفرح، وترى شقيقاتِها يرقصن فرحًا بها بعدما عادت من سنين الغربة لحضنهن وحضن العريس. 

كل هذا فقدته فُتنة وهي حبيسة الأوراق المطوية، تلاحق المؤلفَ ليكتب عنها، يكتب حكايتها وروايتها، تلاحقه ليرى العالم الحقيقي الذي يعيشه الناس وهي معهم، لا كلهم طيبون ولا كلهم أشرار، لا كلهم منحرفون ولا كلهم ملائكة، لا كلهم كاذبون ولا كلهم صادقون، كلهم كل شيء وعكسه، الجميل والقبيح، الطيب والشرير، الحلال والحرام، كلهم كل شيء وعكسه، والحياة تدفعهم أمامها، وتقسو عليهم، وهُم يقاومون ويعيشون، ويحلمون بالأجمل الذي يتأخر كثيرًا، وأحيانًا لا يأتي أبدًا، تتمنى لو كتب عنها الأستاذ المؤلف، لو كتب عن زبائنها ومشكلاتهم الصعبة التي تفسد حياتهم، وعن محاولاتها لإسعادهم، لا يكترثون بالحكم عليها، ولا تهتم بنظرة الآخرين لها، هُم يحاولون العيش أكثر سعادة، وهي تحاول أن تقدم لهم السعادة مقابل أجرٍ تسدد منهم أجرة البيت، وقِسط الجمعية ومال كفالة اليتيم، وتحويشة الكفن، وثمن الحذاء الأحمر الذي حلمت بشرائه .. "احنا الحياة اللي بجد يا استاذ، فينا كل العيوب، وفينا كل المميزات، ولاد حرام وولاد حلال في نفس الوقت، وِحشين وحلوين، طيبين ومجرمين، احنا الحياة، نضحك ونبكي، نفرح ونزعل، نحارب علشان نعيش ولما نقع نضحك ونقول ما يقعش إلا الشاطر، ولما تستقوي الدنيا علينا نقول لروحها اللي جاي أحسن، وياما دقت على الراس طبول. اكتب عني يا استاذ، وعن الحياة اللي بجد". 

أيام طويلة فقدت خلالها فُتنَة حياتها وعالمها، وهي تلاحق الأستاذ المؤلف ليكتب عنها، كادت تيأس وهو يرفض أن يفتح الشبّاك، وأن يخرج من البيت وينزل الشارع، وكأنه اشترى مقبرة ويجرب الحياة فيها، حياة تشبه الموت، كادت تيأس وهو يرفض أن يعيش، والشمس لا تعرف سِكة نافذته، والقمر خاصم شرفته، والهواء النظيف فر من عطن الهواء الراكد الذي يخرج من أنفه ومن عقب باب بيته، كادت تيأس من محاولاتها معه، كيف ستكتب وأنت لا تعيش؟! أنت ميّت يا أستاذ، والموتى لا يكتبون الروايات، عُد للحياة، وعِش واكتب عني وعن البشر الأحياء الحقيقيين، بحلوِهم ومُرِّهم، لا تحكم عليهم يا أستاذ لست قاضيًا، ولست ربّ الكون لتحاسب وتعاقب، وتحرق وتحيي وتميت، اكتبْ عني وعن البشر الأحياء الحقيقين، بكل ما يعانون منه، واترك الحكم والتفاعل والرأي للقراء، عِش الحياة يا أستاذ واكتب عنها، وقتها ستحل كل مشكلاتك، وستتخلص من كوابيسك، وستنهمر على روحك الحكايات والروايات، لن تجد لها وقتًا لتكتب وتنشر، ليتك تفعل يا أستاذ!". 

كادت فتنة تيأس من محاولاتها المتكررة الدؤوبة في ملاحقة الأستاذ المؤلف، كادت تترك الأوراق المطوية والدرج والبيت المظلم، وتنسى كل تلك الأيام، وتعود لحياتها وتعيشها بطولها وعرضها، وقبْل لحظة الفرار الأخيرة يتملكها العناد، وتتشبث بمحاولاتها لإقناع المؤلف بالكتابة عنها، قبْل لحظة الفرار  الأخيرة لا تستسلم لليأس ولا للهزيمة، وتقرر أن تحاول ثانيةً  واثقة أنها ستنجح وإن طال الزمن ..  

قضت ليلة طويلة في الدرج تعاني من الخنقة والظلام الموحش، تفكر في المؤلف وهي تتقلب على أسطر صفحاته المطوية، لا تنام ولا تستيقظ فعلا، تتمنى لو حَن قلب المؤلف عليها، وأفرج عنها، وأخرجها من الأوراق المطوية وكَتب عنها، تتمنى لو صدّقها وأحس بها، وأدرك حكايتها وقيمتها بكل تناقضاتها، مُرِّها وحلوِها، همست تعاتبه، "يا استاذ لو كتبت عني حتحل كل مشاكلنا، انت حتكتب روايتك اللي مش عارف تكتبها، وانا حاخرج من الزنقة والخنقة والدرج المهبب وارجع حياتي". 

تَقلّب في فراشه، وكأن صوتها أيقظه، كأنه سمِع صوتها لكنه لم يفهم معنى كلماتها التي تسللت من درج مكتبه المغلق لعقله الباطن المتعَب المرهق، كان الملثمّون يطاردونه، ويجمعون كتبه، ويشعلون كرات اللهب لإحراقها، تلفّتَ حوله لم يجد إلا صوتها يؤنِسه في تلك اللحظة الموحِشة، لا يجد ملاذًا ولا سندًا، ولا مهربًا ولا نجاة، إلا صوتها الطيب يأتيه من بعيد، يسكن طرف الحلم وكأنه قبس أملٍ لا يعرف مِن أين أتى، ولا لماذا! يهرب من الملثمّين الذين يبحثون عن عنقه ليكسروه، وعن يديه ليقيدوها، ليلقوه وسط النار ليحترق مع كتبه وأفكاره، يهرب منهم يائسًا مهزومًا يبحث عن معجزة تنتشِله من كابوسه اليومي، لم يجد غير صوتها الطيب يناديه، "اكتب عني يا أستاذ"، يصرخ فيها، أغيثيني.. يصرخ فيها بصوتٍ ملتاعٍ فزِع يبحث عن طوق نجاة وسط أمواج اللهب العاتية، صوته اخترق قلبها وسط الأوراق المطوية في الدرج المغلق الموحش، لم تصدق ما سمِعته، ظنت نفسها تهذي، لكنه صراخه يلاحقها.. أغيثيني ..أغيثيني، نعم هو يناديها ويطلب مساعدتها، تخرج من وسط الأوراق المطوية وتفِر من الدرج المغلق، وتحلّق لخياله، تسكن روحَه وأحلامه، هل ستكتب عني يا أستاذ؟ تسأله برجاءٍ وتضرع وهي تمد يدها لتنتشله من ملاحقة الملثمّين ومطاردتهم المخيفة، على وجهه رعب، وفي عينيه يأسٌ وانكسار، وهو مطارَد ملاحَق قليل الحيلة، ولماذا أكتب عنك أو عن غيرك، والملثمّون يحرقون كتبي واسمي، وشخصياتي تفِر من مصيري وتنجو بنفسها، وتتركني أحترق وأوراقي؟! تصرخ فيه، اكتب عني وعن حياتي، اكتب عن الحياة والبشر الحقيقيين، ولن يحرقوا كتبك. 

ساخرًا مرعوبًا لا يصدقها، سيحرقونني وسيحرقونها معي، بحسمٍ ويقين تصرخ فيه، اكتب عني وعن البشر الحقيقيين، ولن  يحرقوا كتبك، صدّقني، ولو حاولوا أن يحرقوها، أنا والبشر الحقيقيون الذين كتبتَ عنهم لن نفِر من مصيرك، وسنبقي معك نحاربهم ونمنعهم من أن يحرقونا، ونمنعهم من أن يحرقوا اسمك، وفي النهاية إن هُزِمنا، سنهزَم معًا، أنت وأنا والبشر الحقيقيون، وسنبقى معًا نواجه مصيرنا أيًا ما يكون، اكتب عني ي أاستاذ ولا تخف، لن يحرقونا.. صدّقني، صدّقني يا أستاذ!" 

واستيقظ من النوم في الصباح مرتاحًا، وكأنه نام ألف شهر، استيقظ مرتاحًا مطمئنًا، وكأنه عثر علي ما كان يبحث عنه طويلا، استيقظ مرتاحًا مطمئنًا وقرر في لحظة جنونٍ أحَبها أن يكتب عن فُتنَة، عن العاهرة الطيبة التي تطهو محشي الكرنب، وتسمع عبد الحليم، وليحدث ما يحدث!  


نبيل

لا يصدق نبيل التغييرات التي لحقت بحياته، منذ تلك اللحظة الغريبة التي قرر فيها أن يكتب عن فُتنَة، وكأنه كان تائهًا حائرًا وعثر على بوصلته التي هدَته لطريقه الحقيقي الذي طالما بحث عنه تعِبًا مشوّشًا، وكأنه كان في غيبوبة جذع المخ والذي أعيدت له الحياة بمعجزة إلهية، فاسترد وعيَه الغائب ونفسه وحياته بعد طول رقادٍ وغياب، وكأنه كان صغيرًا يجري بين سيقان الكبار لا يرونه، حتى كبر فجأة فانتبَهوا لوجوده وسطهم، وأصبح له كيانٌ وحياة بعدما كان نكِرة ضائعًا لا قيمة لوجوده ولا غيابها ..

أيام طويلة يجلس أمام مكتبه المرتّب في حجرته النظيفة، يكتب عن فُتنَة والبشر الحقيقيين، وعن الحياة الصاخبة بكل تناقضاتها العبثية الجميلة، خطوط درامية متلاحقه ترسم صورة كبيرة، حقيقية مبهجة، رغم الدموع التي تتساقط منها، والحزن الذي يلوّن بعض أركانها بوحشتِه وقتامته، دون أن ينال من بهجتِها وجمالها ...

أيامٌ طويلة يجلس نبيل أمام مكتبه، وذكريات الأيام الفائتة تداهِمه كشهب وهجٍ ونور، تؤنسه بكل ما عاشه فيها من أحداث غريبة. استيقظ في ذلك النهار المختلف يشعر شوقًا للحياة، ونهمًا لعيشها، تلفّتَ حوله على فراشه لم يصدق كل القبح الذي يحتل الغرفة وكل أركانها، والظلام الموحش الذي يظلل على جنباتها، رائحة الهواء العطن المحتجز بين الجدران أصابته بدوارٍ مخيف، فلاحقته الأشباح والهلاوس، يومَها انتفض من فراشه مقررًا أن يغير كل ما يعيشه، متحديًا نفسه وكسله، ومخاوفه وعجزه عن الكتابة والحب، انتفض من فراشه قرفًا لا يصدق أنه ينام على تلك الملاءة القذرة ذات اللون الغريب الذي كان أبيض ثم تلوّث بالتراب والظلام والكوابيس واليأس، فصار قبيحًا منفرًا لا لون له ولا ملمح، تعثرت خطواته على أرض الحجرة بأشياءَ لم يعد يفهم مبرر وجودِها، علب فارغة، وأكواب مكسورة، وأعقاب سجائر، وملابس قديمة نسي متى ارتداها للمرة الأخيرة، العناكب ترسم بخيوطها الواهنة رسوماتٍ تجريدية على سقف الحجرة، والذباب سكن سلك اللمبة المحترقة التي تتوسط الغرفة، لا يصدق كل التفاصيل المرعبة التي تحيطه، يبتسم ساخرًا ودموعه تكسو مقلتيه متسائلا، كيف يمكن لإنسان أن يعيش وسط كل هذا القبح؟ ولا أقول كيف لأديبٍ أن يكتب، ولا لفنان أن يبدع؟! كيف هويت إلى هذا الدرك الأسفل من القبح يا نبيل؟!

تطمئِنه فُتنَة التي خرجت منذ ساعات الصباح الأولى من وسط الأوراق المطوية، وتحمّمت وغيّرت ثوبها بجلباب بيت مريح ونظيف، خطفت رِجلها مسرعة وأحضرته من منزلها، تطمئنه أنها ستنظف البيتَ والحجرة، وترمي كل الأشياء الغريبة التي تحتل الفراش والأرض، وأنها سترتّب المكتب، وتجهز الأوراق والأقلام وكوب الشاي الساخن، وستعيد حجرته وبيته مثلما كانا، قبل أن يستبد به اليأس، مكانًا آدميًا جميلا يشع بالبهجة والحياة، وَعَدته أن تشتري له أصص ريحان ونعناع للشرفة وحواف النوافذ، بعد أن تنظفها وتغسل زجاجها وخشبها، وَعَدته أن تفرش له ملاءة جديدة نظيفة، وأن ترمي القديمة خارج المنزل بكوابيسها وقذارتها .. "ما تشيلش همّ خالص يا استاذ".

ما يزال يتذكر ذلك اليوم البعيد، وذلك الصباح الطازج الذي تغيرت فيه حياته، وعادت إنسانيةً طيبة مثلما كانت دائمًا، يومَها استيقظ من نومه مرحًا، فتح النافذة فسمع صوت القرآن ينبعث من المقهى تحت منزله، أحس ارتياحًا وطمأنينة وونسًا، ابتسم وقرأ الفاتحة لأمّه التي كانت توقظه بحنانها، ولأبيه الذي كان يصحبه للمدرسة، ويحكي له طوال الطريق عن حياته الصعبة التي عاشها، وصوت القرآن يلاحقهما طوال الطريق من محل لمحل، ومن مكان لمكان، جميعهم يبدوأن به يومهم أملا في الرزق والرحمة وكرم الله .. 

اشتاق لكوب شاي على المقهى الصاخب، تحمّم وارتدى ملابس جديدة لا يذكر متى اشتراها، ولا لِم لم يرتدِها من قبل، وخرج من شقته وتركها لفُتنة التي وعدته بشقة جديدة وحياة جديدة فيها، وقت أن يعود، تعثرت خطواته على عتبة الباب في مئات الخطابات المغلقة التي تركها مكانها طويلا، حتى اعتبرتها قِطط السلّم مرحاضها الخاص، لا يصدق لِم لم يفتح الباب طيلة كل ذلك الوقت، ولِم لَم يستلم خطاباته! يهز كتفيه ارتباكًا، عزل نفسه عن الحياة بكل أشكالها، ولو كانت مجرد خطابات تخطره بقطع خط التليفون لعدم سداد الاشتراك، أو إخطارات ضرائبَ فات ميعاد الطعن عليها .. 

تعثرت خطواته في الشارع كطفلٍ صغير تعلّم المشي مؤخرًا ولم يمارسه بعد، يكاد يسقط كل خطوتين أو ثلاث، الهواء النظيف أصاب رأسه بدوارٍ وخدَر لذيذ، فرسم ابتسامة واسعة على وجهه دون إرادته، وكأنه كان سجينًا وأُفرِج عنه بعد تأبيدة أكلت عمرَه وعافيته وأحلامه.

جلس على المقهى يشرب الشاي بسعادةٍ وتلذذ، كأنه نسي طعم الشاي، اشترى جريدة نهارية، وقرأ مانشيتاتِها وابتسم لا يفهم عما يحكون، ولا عمّا يكتبون، وكأنه مِن أهل الكهف العائدين للحياة بعد سُباتٍ عميق، قرأ الحظ مثلما اعتاد وقت أن كان يطالع الجريدة، وضحك .. فكأن فُتنَة أو رؤوف مَن كتبا حظه اليوم وكل يوم، "نهارك سعيد يحتاج لمجهود"، تعالت ضحكاته مع نفسه بشكلٍ لفت أنظار الجالسين لوجوده بعد أن نسَوه في المقهى بسبب طول الغياب،  طلب شايًا مرة أخرى، وقضى وقتًا طويلا يرتشفه بمزاج رشفةً رشفة، وكأنه يتعرف على نكهتِه لأول مرة، يتابع فتياتِ المدرسة الثانوية وهنّ يقتربن من سور المدرسة التي يكرهها منذ سَكن في تلك البناية، فتيات جميلات يسِرن بصخبٍ وفرحة، لا يحملن للحياة همًا، تمنى يومًا أن يكتب عن عالمهن المزركش بالشباب والحيوية روايته الجديدة، سمِع صوت طرطشة الزيت المغلي، وأقراص الطعمية الصغيرة تتأرجح فيه، جرَى لعابه، وفُتِحت شهيته لطبق طرشي، تمنى لو دخل المطعم الصغير القريب وجلس على مائدة كبيرة، تمنى لو طلب طعامًا كثيرًا من كل الأنواع، وأكَل بأصابعه العشر مستمتعًا بكل المأكولات التي نسي مذاقها، تمنى لو شرب ماء الطرشي، والتهَم عشرة قرون فلفل أخضر حارق، ولحس أصابعه بعد أن غمسها في أطباق الطعام بقصدٍ وعمدٍ وتمردٍ وبهجة. 

ما يزال على مكتبه يلاحق طوفان الأفكار وسيول الكلمات التي تنهمر من رأسه لأوراقه، تحكي عن فُتنَة والبشر الحقيقيين في روايته الجديدة التي طال انتظارها، وثقلت معاناة البدء فيها، وما تزال ذكريات اليوم الطازج الجديد الذي عاد فيه لنفسه الحقيقية تؤنسه، جلس على المقهى يتأمل الوجودَ كله، الشمس تلقي أشعتها وظلالها على الشارع المزدحم، فترسم خيالاتٍ للمارة والمباني، والأشجار تتداخل مع بعضها، وترسم لوحة نابضة بالحياة والصدق، يحتسي الشاي ويوزع ابتساماتِه بلا سببٍ على الغرباء والمارة؛ حتى ظنوه مجنونًا طيبًا، لم يكترث لنظراتهم المندهشة المذعورة، وكأن الابتسامة الصادقة تحولت إلى شبحٍ مخيف يفزع الغرباءَ من بعضهم البعض. تمايل جسده ونغمات الأغنيات التي يبثها المذياع دفئًا وحيوية في جنبات المقهى وفي قلوبِ روادها، يشكر القهوجي على الشاي المضبوط ووِش القهوة، فيرتبك القهوجي، ولا يجد كلماتٍ يردّ بها على شكره؛ لأنه لا شكر على واجب. خَطف نظرة سريعة على ملامحه المنعكسة على مِرآة مدخل المقهى، فتسارعت دقات قلبه انزعاجًا وتوترًا، الخطوط الغائرة كثرت على ملامح وجهه، غيّرتها فصار لا يعرف ملامحه ولا نفسه! أمّا الشيب والشعيرات البيضاء المتوارية بين شَعره الكثيف الأسود فأخافته؛ لأن السنوات تجري، وهو لم يتِم بعدُ مشروعه الإبداعي، ولم ينجح ولم يشتهر، ولم يتحقق مثلما حلمَ وتمنّى. نظرة صغيرة للمِرآة أطلقت في عقله عشراتِ الأسئلة، منذ متى لم ينزل المقهى؟ لا يعرف.. منذ متى لم يخرج من منزله؟ لا يعرف.. ولماذا أسَر نفسه واحتجزها بين الجدران، هي والهواء الراكد والموات؟ لا يعرف.. سنوات مرت وهو لم يدخل المقهى، ولم يرَ الشارع، ولم يغادر البيت إلا قليلا! الآن كل ما يعرفه جيدًا أن المرة الأخيرة التي جلس فيها على هذا المقهى كان بشعرٍ أسودَ، وملامحَ بريئة، وقلبٍ أخضر، وأمله في الحياة كان كبيرًا، ابتسم ساخرًا حزينًا من عزلته الاختيارية واحتجازِه الإرادي لنفسه، والجدب الذي أصاب روحَه وقلبه .. 

تنهال على رأسه الذكريات كسيل حممٍ حارق، المرة الأخيرة التي جلس فيها على هذا المقهى الشعبي كانت منذ سنواتٍ بعيدة، كان يوم استلامه للنسخة الأولى من روايته الأولى، كان عائدًا من دار النشر، يحمل بفخر نسخةً من روايته الأولى التي تحمل اسمَه، يومَها جلس على المقهى طويلا، قرأ الرواية كلها، وكأنه ليس كاتبها، سعيدٌ فرِح يحلّق وأحلامَه الوردية في السماء، تَصَور وقتها وهْمًا أن صفحات الأدب ستفتح له أحضانها، وأن الجوائز الثقافية ستنهال عليه، وأن القراء سيستوقفونه في الشارع يطلبون توقيعه على نسخهِم! 

قَبع في المنزل أيامًا طويلة بجوار الهاتف؛ ينتظر مكالمات التهنئة والثناء، لكن أحدًا لم يتصل به! قضى لياليه يفحص المجلات الأدبية والدوريات، وصفحات الأدب في المجلات والجرائد، ينتظر تحليلا لروايته، وآراء النقاد والمتخصصين فيها، لكنه لم يجد عنها أي ذِكر ولو في سطرٍ واحد! اتصل بالناشر قلِقًا يسأله عن عدد النسخ المَبيعة، فسأله الناشر عن اسمِه؛ لأنه لا يتذكره، وحين أخبره عن اسمِه سأله عن اسم روايته، وحين ذَكّره بها أخبره الناشر أن نسخة واحدة قد بيعت، وأن بقية النسخ مكدّسة في كل المكتبات، لا تجد مَن يقترب منها! يومَها رفض أن يصدق الناشر الكاذب الذي يريد سرقة تعبِه ومجهوده، وطاف على المكتبات بنفسه يسأل عن روايته، فتأكد مما سمِعه من الناشر، سأل البائعين بأسى، هل يسأل عنها القراء؟ فهزوا رؤوسهم نفيًا، يومَها عاد من المكتبات محبطًا مقررًا ألا يكتب حرفًا واحدًا بعد ذلك اليوم؛ فلا أحد يفهم، ولا أحد يقرأ، ولا أحد يقدّر! 

تتلاحق أنفاسه، وكأنه يعيش نفس اليوم الموجع مرةً ثانية، قرر ألا يكتب ثانية؛ لأن لا فائدة، وسرعان ما عدل عن قراره، وكتب رواياتٍ سخيفة كاذبة، واخترع شخصياتٍ لا تمتّ للواقع بِصِلة، وبنَى عوالم وأحداثًا زائفة كاذبة لا يصدقها أحد مهما كان جاهلا ساذجًا، كدّس صفحات رواياته الجديدة بحديثٍ عن الجنس، والدين، والسياسة، والمرأة والخيانة، وصَف بعض اللقاءات الجنسية بين أبطاله وصفًا مستفيضًا مثيرًا، وشَتم الحكومة وسبّها ورجالها وقراراتها وفسادها، وأحضر رجال الدين وخلع عنهم أردية القداسة، وألبسهم أثواب المسوخ، وسخِر من لحاهم، وساقهم لأقدار دراميةٍ عنيفة ومخيفة غير منطقية وصعبة الحدوث، عدلَ عن قراره بالامتناع عن الكتابة لكنه كتب رواياتٍ سخيفة قبيحة بناءً على نصيحه صديقٍ عاقلٍ حكيم، أفهمه ما يحِبه القراء، وما يحتاجه السوق، وما يطبعه الناشرون، وما تبيعه المكتبات، أفهمه صديقه أن روايته جميلة لكنها لا تطعِم خبزًا، ولا تفتح بيتًا، ولا تشتري شبْكة عروس، ولا شقة للزواج، وستبقيه صعلوكًا مهما اشتهر ونجح. نَصحه صديقه المخلص أن ينقذ نفسه مبكرًا، وأن يكتب ببراعته ما تحبه المراهقات والعوانس والأرامل، لم يفكر نبيل ولم يتردد، ولم يمانع، يحلم باسمِه معروفًا مشهورًا، يحلم بجيبه مليئًا، ومحفظته عامرة، وحسابه البنكي مليئًا بالأصفار. كَتب رواياتٍ سخيفة لا يحبها ولن يحبها، لكنه برع في كتاباتها وتصوير أجوائها الغامضة الغريبة، ورسمِ شخصياتها الزائفة المصطَنعة، هنا فقط بِيعت كتبه، وطُبِعت مرات ومرات، وسَطع اسمه واشتهر، وعرَفه القراء، وصفحات النقد، وانهالت دعوات العشاء، وافتتاح الندوات، نجح واشتهر لكنه خجل أن ينزل المقهى، وخاف أن يفتح النافذة، وتوارَى عن جيرانه وزملائه، وقَنع بالزيف الذي يكتبه باعتباره مناسبًا للأيام الرديئة التي يعيشها، ولأنه لا فائدة من أي شيء جادٍ ومحترم، ولأننا يجب أن نعيش!  

سنواتٌ مرت، منذ اختار الكتابة الرديئة الزائفة مِهنة ومستقبلا، سنواتٌ لم يجلس على المقهى، ولم يسِر على الكورنيش، ولم يفتح النافذة، ولم يغير هواء الحجرة. 

سنواتٌ مرت وهو عاجز عن الحب والقرب والكتابة، عاجز عن الحياة حتى نسي شكلها وملامحها، وقبل أن يفيق من اختياره، ويتراجع ويعود لنفسه هاجمه الملثمّون في كابوسه المتكرر، ولم يبارحوه لسنواتٍ متلاحقة ولو ليلةً واحدة، هاجموه وأحرقوا كتبه واسمه، وشخصياتِه وعوالمه الزائفة، هاجموه وأحرجوه، فازداد عنادًا وتشبّث بما يفعله، وكأنه اختياره الحُر الصحيح. 

سنواتٌ ثقيلة مرت عليه رَسمت ملامحها على تجاعيد وجهه، وشيب رأسه، وإرهاق روحه. 

سنواتٌ طويلة عاشها وحيدًا مستعذبًا وحدته، رافضًا التمرد عليها، أسيرَ اختياره وقراره، معزولا عن العالم والحياة، يكدس في البنك مالاً لا يعرف كيف ولا أين ينفقه، كأنه باع موهبته، بل باع نفسه مقابل أصفارٍ كثيرة في البنك، لا يجد نفسًا لإنفاقها ولا الاستمتاع بها ..

ما يزال نبيل يجلس على المقهى يستعيد حياته التي فقدها بإرادته واختياره، ما يزال يتذكر كل ما حدث، حتى عطب قلبه، وجدبته روحه وتاه، في تلك اللحظة تذكّر فُتنَة التي غضب منها وكرهها، هي باعت نفسها وباعت السعادة للآخرين، فأحبوها وأحبوا الحياة، أمّا أنت يا سعادة المؤلف فبِعتَ موهبتك ونفسك للأصفار البنكية، وللشهرة الفارغة، فكرهك القرّاء، وكرهوا الحياة كلها، هذه هي روايته الجديدة وحكايتها، حكايه فُتنَة والمؤلف، ليست سيرة ذاتية، لكنا بوح يطهر الروحَ من أوجاعها ..

ما يزال نبيل جالسًا على مكتبه المرتّب، يكتب في روايته التي صارعته فُتنَة حتى آمن بها وصدّقها، وبدأ يكتب عنها، بل يكتب عن نفسه، وكأنها كانت تراوده ليكتب عن نفسه، لكنه لم ينتبه إلا بعد صراعٍ طويل بينهما، في ذلك اليوم الذي قرر أن يكتب فيه عن فُتنَة، فتح الدرج المغلق الذي نظفته ورتّبت أوراقه، واعتبرته بيتها وفراشها ومعركة حياتها، فتح الدرج المغلق وأخرج الأوراق المطوية، وقرأ العباراتِ التي كتبها وأغضبته فيما قبل، فأحَب فُتنَة وحديثها، والحديثَ عنها، وأكمل كتابه بسهولةٍ ويُسر، وكأنه سُحِر بوجودها وحيويتها، وبحبها للحياة، وللنافذة المفتوحة، وأغاني عبد الحليم، وسرعان ما انهمرت الرواية فوق قلبه وعقله أمطارًا إعصارية، وفيضاناتٍ جارفة، لم يقوَ على السيطرة عليها، فكسرت كل سدوده، وجرفت أمامه كل العطن الذي كان يحتله، والقيح الذي سمّم بدنَه وروحه .. وأحَس شبابه يعود إليه، وأحَب الحياة، وأحَب فُتنَة العاهرة، بطلتَه الجميلة التي أصرت على الوجود، وتشبّثت بالحياة، وقاومت دفاعًا عن وجودها فانتصرت لنفسها ونَصَرته ...


نبيل

يوم، اثنان، ثلاثة، أسبوع.. اثنان.. ثلاثة.. شهران.. أربعة، أيام وراء أيام كثيرة متلاحقة، قضاها نبيل يكتب عن فُتنة، وعن اختياراتها في الحياة، عن نفسه وعن اختياراته في الحياة، يكتب عن الحياة التي نسيها فعجز عن الكتابه عنها، وعن الكتابة عمومًا، أيام كثيرة متلاحقة لا يعرف نبيل عددها، يكتب حتى ليلة أمس، تلك الليلة التي سَطر فيها النقطة الأخيرة في السطر الأخير، وانتهى من روايته الأعز إلى قلبِه، نعم صارت "فُتنَة" هي الرواية الأهم والأعز، قرأ الرواية كلها مرة واثنتين، وأضاف كلمة هنا، وسطرًا هناك، ووصفًا هنا، وحكاية صغيرة عنها، وفي النهاية أنهى الرواية، وابتسم ابتسامة واسعة، وظن أنه سيقوم ويحتفل بنفسه، لكنه غفا مكانَه على مقعده ساعاتٍ طويلة. تراقِبه فُتنة وهي ترتّب الأوراق، وتنظف المكتب، وتجهز له ملابسه النظيفة، ومحشي الكرنب، تراقبه وهي تنظف النافذة وتروي أصص الريحان التي وضعها على النافذة، تفوح برائحة الحياة كلما اقترب من النافذة، تراقبه فُتنة وتتمنى لو تهمس، "ما كان من بدري يا استاذ!"، لكنها تصمت احترامًا لصراعه الذي عاشه مع نفسه ومعها، تراقبه وتراقب أحلامه الملونة التي تؤنسه في نومه الهاديء، تستعيذ من الشيطان، ومن الملثمين، ومن كل أولاد الحرام الذين ضيّعوا الطريق من تحت قدميه فتَاه، تراقبه سعيدةً فخورة بصراعها معه وانتصارِها عليه، تسمعه يتمتم وهو نائم أن بعض الهزائم في حقيقتها انتصارات، تبتسم، صدَقت يا أستاذ، يبتسم وهو غافٍ وكأنه لا يقصد ..

غفا ساعاتٍ طويلة مكانه على المقعد الخشبي، حتى أيقظته فُتنَة وسَحبته من ذراعه لفراشه، وأحكمت عليه الغطاء، وتمنت له أحلامًا سعيدة، وقبل أن تنام استيقظ نبيل سعيدًا، بجَلَبة محببة لقلبها، فتح الراديو والنافذة، ورفع عقيرته بالغناء فرحًا فخورًا بنفسه، نومه الهاديء، وإنجازه الجميل، وروايته الغالية، كل ذلك رسم   على وجهه ملامح راضية هادئة هانئة، معركة صعبة وانتصر فيها، نام نومًا هانئًا، رحل الملثمون عن أحلامه، وتركوه ينام براحةٍ وهدوء، فتح النافذة ورفع صوت الراديو وعقيرته بالغناء، تحمّم وارتدى قميصًا جديدًا، وحمل مسوّدة الرواية وخرج سعيدًا، لمح في مرآة المقهى أن تجاعيد وجهه تلاشت، وأن شَعره الأشيب اختفى، وأن شبابه عاد ساطعًا، وكأن سنوات الصراع والزيف قد سقطت من عمره، هي وكل آثارها .. 

رفض الناشر طباعة روايته "فُتنَة"، وسأله بحسرةٍ وغضب، "ليه يا استاذ سِبت الخط اللي كنت فيه؟ ده كان ناجح قوي وله زبون وبيعمل فلوس!"، غمزت له فُتنة أن يصمت وألا يردّ عليه، "ولا عمره حيفهم يا استاذ، ما تتعبش نفسك معاه"، وافقها ضاحكًا، ولوّح للناشر يودّعه، وحملَ مسوّدة روايته وخرج يسير وسط زحام الشوارع سعيدًا راضيًا؛ لأنه بحق استرد نفسه وموهبته، لو أعجَبت تلك الرواية ناشرَه القديم لشكّ في نفسه وموهبته وقدراته، لكن الناشر الذي اعتاد نشر الزيف رفض نشر روايته الجديدة، فأسعده وأسعد فُتنَة، "ما يستاهلش والمصحف يا استاذ ننشرها عنده"، وافقها نبيل وأكمل سيره في الشارع المزدحم، يؤرجح ذراعيه، وعلى وجهه ابتسامة كبيرة لن يفهم معناها بحق إلا فُتنَة! 


رؤوف

فتح رؤوف باب شقته، ليجد نبيل أمامه، بغير ميعادٍ مسبق، يحمل النسخة الأولى من روايته الجديدة "فُتنَة"، ارتبك رؤوف الذي لم يتوقع زيارة نبيل له أبدًا، بعد كل ما دار بينهما من صراعٍ وشجارٍ وتلاسن. رحّب به حذِرًا لا يعرف سبب الزيارة، قدّم له القهوة التي يصنعها بيدِه، وفي فمِه ماء، ينتظر أن يشرح له سبب الزيارة دون أن يسأله، جلس نبيل أمامه مرتبكَا كالتلميذ، ومنحه روايته واعتذاراتِه عن كل ما حدث منه، وطلب منه أن يقرأ "فُتنَة"، وأن يكتب رأيه فيها، وغادره مسرعًا!  

تمنى رؤوف لو يستبقيه، لو يتحدثان معًا كصديقين قديمين، رغم فارق السن والخبرة، تمنى لو تبادلا الحديث عما يحدث في الدنيا التي أغلق رؤوف أبوابه بعيدًا عنها واختبأ في شرنقته، تمنى لو يحدثه نبيل عن صراعه الطويل الذي بدأ برواية جميلة لحِقها تخاذل وزيف أعقبهما فتنة، كيف خضتَ ذلك الصراع؟ وكيف مررت فيه؟ وكيف انتصرت على نفسك وأطماعك ومخاوفك؟ لكن رؤوف لم يفعل شيئًا، وتَظاهر بعدم الاكتراث لأن نبيل غادره مسرعًا بعدما ترك الرواية على المنضدة في وسط الحجرة تنادي رؤوف ليقتحم عالمها، لكن رؤوف مرتبِك خائف، نعم خائف، خائف أن تكون تلك الرواية درجةً من درجات الهاوية التي سقط فيها نبيل، خائف من صدمةٍ جديدة، وخذلانٍ جديد. 

تَجاهل رؤوف الرواية بضع ساعات، وانشغل بأي شيء آخر لا قيمة له، لكن الرواية تلِح عليه وتناديه، وفُتنَة أيضًا تناديه وتحثه على أن يبدأ في قراءة روايتها وحكايتها، تلاحِقه في المطبخ وهو يصنع القهوة، وتشاغله وهو يقرأ في الجريدة أي أخبار لا تعنيه، وتلِح عليه وهو يتابع نشرة الأخبار تلومه لأنه تجاهَلها وروايتها أهم من كل ما ضيّع وقته فيه، وفي النهاية رَضخ رؤوف لفضوله وشغفه، وإلحاحِ فُتنَة، ورجاءِ نبيل، وأمسك الكتاب فصعقته كلمات الإهداء التي كَتبها له نبيل، "إلي الأستاذ الذي نصحني فلم أقدّر نصيحته، وحين هويت مدّ يده لينتشلني فلم أقبَل، وحين ضِعت وتبعثرت كرمادٍ محروق لم يكترث لحالي، إلى الأستاذ، أهديه حكاية "فُتنَة" التي أنقذتني من نفسي؛ علّها تخبره كيف متُّ، وكيف أعادتني للحياة". 

قرأ رؤوف كلماتِ الإهداء مرةً واثنتين، واجتاحته كهرباء صاعقة أسالت دموعه، وفجّرت نحيبه، وأحَب فُتنَة قبل أن يقرأ سطرًا في حكايتها، وتمناها أن تعيده هو أيضًا إلى الحياة بعد هذا الموت الطويل الذي غاب خلف جدرانِه عقودًا طويلة.  


فُتنَة

ما تزال فُتنَة تقف في النافذة، تتابع المارة في الشارع المزدحم، تصغي لصوت حكاياتهم الصامتة، تحِبهم وتتعاطف معهم، تهديء من روعهم وتؤنسهم بغنائها الطيب.

ما تزال في النافذة تروي أصص الريحان والنعناع، وتقلم الجهنمية الحمراء التي أهدتها شتلتها جارتُها العجوز الطيبة. ما تزال تفكر في عملائها وتعاسه قلوبهم، وتتمنى لو يعيشون السعادة بعيدًا عنها؛ حتى تعتزل مِهنتها وبيع السعادة المؤقتة للتعساء، وحتى يأتيها ابن الحلال على حصانه الأبيض بقلبٍ كبير، يغفر لها ما عاشته، ويرسم لها معه وفي حضنه حياةً أدفأ وأكثرَ حنانًا وصدقًا مِن كل ما عاشته، ما تزال تحدّق في المارة وابتساماتهم، وفي دموعهم الخفية، وجروح قلوبهم، وقيح وجعها، وتحلم بحياة مختلفه لها ولهم جميعًا، حياة أكثر إنسانيةً ورِقة، ورأفةً وسعادة. 

ما تزال في النافذة تقزقز اللب، وتدندن مع صوت عبد الحليم، وتوزع ابتساماتِها على الآخرين صدقةً ورحمة ..

ما تزال فُتنَة تقف في النافذة تدندن مع أغاني عبد الحليم فرِحةً بانتصارها على نبيل، تستعيد صراعها المضني معه، فرِحة بعودته للحياة وبشَرِها الحقيقيين، والعيش معهم والكتابة عنهم، "قل إيه وزيرة ومظاهرة ومش عارف إيه! والنبي هو ده كلام حد يكتبه؟ ولا حد يقراه؟ أهو طلع كلامي أنا اللي صح، لمّا فتح الشبّاك، ونضّفنا البيت، وسمع الراديو حَبّ حياته وحَبّ نفسه وحبّني، ورجع يكتب بعد التوهة والقهرة". 

تبتسم أكثر، وترفع صوتها بالغناء عاليًا من نافذه بيتها وهي تتابع مشاجرات الشارع، ومعاكسات الأولاد للبنات، والحمَام الزاجل، والطائرات الورقية، فتحِب حياتها أكثر وأكثر ...

              النهاية

ذهب رؤوف لنبيل، حيث يجلس على المقهى في الحي الشعبي الصاخب، سأله مَن فُتنَة؟ ضحك نبيل وهز كتفيه، مؤكدًا أنه لا يعرفها.. قال إنها فتاة قاتلت من أجل وجودها، وفرضت عليه أن يكتبها، ويكتب حكايتها وحكايتهم جميعًا .

ابتسم رؤوف وطلب شايًا بالنعناع، وقال لنبيل 

"أنا حبيت الرواية لأنك لقيت نفسك فيها، ورجعت عن سكة اللي يروح ما يرجعش، وحبيت فُتنة لأنها عرفت تصالحك على الدنيا، الحقيقة مش حبيتها بس، لا وكمان احترمتها، ويا ريت لو شفتها تبلغها محبتي واحترامي". 

همس نبيل لرؤوف "حاضر حابلغها"، واثقًا أن فُتنَة معهما، تسمعهما وتعرف كل ما يدور بينهما، ابتسمت فُتنَة سعيدة وكادت تحضن نبيل ورؤوف وتشكرهما؛ لأن كلاً منهما أحَس بها، ولمس زهرة الحقيقة في روحها، ابتسمت وهي ما تزال واقفة في نافذة بيتها، تقزقز اللب، وتسمع عبد الحليم، وتتابع المارةَ والعابرين، وحكاياتِهم اليومية الصغيرة، وتمنت لو عرفت ما الذي كتبه المؤلف عنها،  تمنت لو قرأت روايته وحكايتها، تمنت أمنية لم تحققها؛ لأنها أمّية لا تعرف القراءةَ ولا الكتابة، ولم تلتحق بمدرسة، ولا تعرف الألف من كوز الذرة! 

وقبل أن يفسِد الأسى سعادتها ابتسمت ابتسامة أكبر، وأكدت لنفسها وللمؤلف، "مش مهم كَتب إيه، المهم إنه فتح الشبّاك، ودخّل الهوا النضيف حياته، ورجع يكتب، أنا مش مهم". 
أكدت لنفسها، "أنا مش مهم خالص، المهم انه رجع يكتب بصدق كلام يستحق الناس تقراه". 
ورَفعت صوتها بالغناء من نافذة منزلها، وهي فرِحةٌ راضية.


22 يوليو 2020 


google-playkhamsatmostaqltradent